جاء الإسلام وأممُ الأرض تشتبك في حروب لا تُحصى، ولأغراضٍ من المطامع شتى، دولٌ في القديم كبرى كان القتال بينها سجالاً، فنيت فيها جيوشها، وناءت بمغارمها شعوبها، لم يكن وقود تلك الحروب إلا مطامعَ الكبار، ولم يشعل فتيلَها إلا شهوةُ التوسع والمباهاة في الاستبداد.
لقد جاء الإسلام وجاءت حضارته والعالم تحكمه قوانين الغاب، وتسوده شريعة الوحوش، القوي يقتل الضعيف، والمسلَّح ينهب الأعزل، والحرب تنشب من غير قيد أو حد، فكلّ من ملك قوّة امتطى صهوة جواده، وشهر سلاحه ليستذلّ الأمة الضعيفة على أرضها، ويغلبها على قوتها، ويكرهها على عقيدتها، فيشعلها حرباً آثمة، ويوقدها على الضعفاء ناراً تلظَّى.
وأما العرب أنفسهم في تلك الأحقاب فقد أكلتهم غاراتهم، فكان الاقتتال لهم طبعاً، والقتل بيتهم عادةً، حتى إذا لم يجدوا غارةً على البعيد أغاروا على القريب، فهم على بكرٍ أخيهم إن لم يجدوا إلا أخاهم.
في هذه العصور المظلمة والظروف الكالحة تفجّر ينبوع الإسلام، فلانت القلوب الصلدة، وترطّبت العصور الجافة، وأقبل فيه العالم على دينٍ جعل الإيمان صنو الأمان، والإسلام قرين السلام، فانحسرت مطامع النفوس، وتجافت وساوس الشيطان، وتقاصرت العدوان على الحقوق، وكان النداء لأهل الإيمان: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
بهذه الروح وبهذه المبادئ انتشر الإسلام في سنواته الأولى، حتى بلغ مشارق الأرض المعمورة ومغاربها في أقلّ من قرن من الزمان، ومن المعلوم قطعاً أن المسلمين لم يكن لهم في ذلك الوقت من القوة العددية ولا من الآلات العسكرية ولا من تقنيات الاتصالات ولا من وسائل المواصلات ما يمكِّنهم من قهر الشعوب على ترك دينها، ولا فرض الحكم على الديار التي دخلوها، لولا أنه دين حقّ، وحضارة سلام، وسياسة عدل. فالشعوب المفتوحة لم تدِن بالإسلام ولم تتعلم لغة القرآن ولم تخضع للمسلمين إلا لِما ظهر لها فيه من الحق والرحمة والعدل الموصِل لسعادة الدنيا والأخرى.
إن الإسلام دين الفطرة، سمتُه البارزة وعلامته المسجّلة نشرُ الحق وفعل الخير وهداية الخلق، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]. تلكم من حقيقة الإسلام ووظيفته التي يجب أن تُعرف في أروقة الأمم ومحافل الدول ومجامع العالم.
والإسلام في غايته والدين في مبادئه لا ينظر إلى مصلحة أمةٍ دون أمة، ولا يقصد إلى نهوض شعب على حساب آخر، ولا يهمّه في قليل أو كثير تملّكُ أرض أو سيادةُ سلطان هذا أو ذاك، ولكن مقصوده وغايته سعادةُ البشرية وفلاحُها وبسط الحق والعدل فيها، فكل توجهٍ غير هذا وكل هدف سوى هذا لا اعتبار له في الإسلام، بل إذا كانت التوجهات تتضمّن ظلماً أو تقود إلى غمط حق فلا بد حينئذ من مقاومتها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فالأرض كلها لله، ويرثها الصالحون من عباد الله.
ولئن كان الإسلام دين رحمة وعدل وسلام فإنه في الوقت نفسه دين قوةٍ وإباء ضيم؛ لأنه دين عملي يأخذ الحياة من واقعها، ويعامل الخلائق من طبائعها، وفي الحياة والطبائع ميلٌ إلى المشاحنات وتوجهٌ نحو المنازعات ودخول في المنافسات، من أجل ذلك وبجانب عدله ورحمته أمر بإعداد القوة التي تحمي الحق، وتبسط العدل، وتزرع الخير، وتنشر السلام، بل إن القوة العادلة أقوى ضمان لتحقيق السلام، وحذّر من أن يفهم الناسُ أن السلام معناه القعود عن الاستعداد ما دام في الدنيا أقوامٌ لا تعرف قيمة السلام، ولا تحترم حرية غيرها في أن تعيش آمنةً مطمئنة في بلادها.
ومن أجل ذلك كله أُمر المسلمون بإعداد القوة وأخذ الأهبة، والقوة المأمور بها قوةٌ شاملة تُحشد فيها كل مصادر القوة، الاقتصادية منها والساسية، والاجتماعية والعسكرية، والأخلاقية والمعنوية، وقبل ذلك وبعده قوةُ الإيمان والاستمساك بالشرع المتين، وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].
والأمة القوية والدولة القوية تُحفظ مهابتها ما دامت صفة القوة ملازمةً لها، وتلكم سنةُ إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة، فلا خير في حق لا نفاذ له، ولا يقوم حق ما لم تحُط به قوةٌ تحفظه وتسنده، وما فتئت أمم الأرض ودولها تُعدُّ نفسها بالقوة، بمختلف الأنواع والأساليب، حسب مقتضيات العصر ومتطلبات الظروف في الزمان والمكان.
ولعل من المناسب الوقوف عند صورة من صور القوة، تلكم هي قوة الروح المعنوية. إن من يقلِّب النظر في تاريخ الأمم التي تتمتّع بالعزّ والسيادة يجدها لم تبلغ ما بلغت إلا بما تربّت عليه من قوّة الروح قبل البناء العسكري، فبقوة الروح وارتفاع المعنويات ـ بإذن الله ـ تَسلم من خطر يمتدّ إليها من الخارج، ويستتبّ لها الأمن من الداخل، وتكون ذات شوكة ومهابة، ولا عجب أن يُولي القرآن الكريم ذلك ما يستحق من عناية، فتنزّلت الآيات التي تربّي النفوس على خلُق البطولة وتحفز الدواعي لإعداد الوسائل واتباع النظم، فالظفر بعيد عن الجبناء، وبعيد عن المهازيل، ولقد توجّهت الآيات الكريمة إلى النفوس تنقّيها من رذلية الجبن والإحجام، وتنذرها بسوء عاقبة الجبناء، اقرؤوا وتدبروا قول الله عزو جل: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8]، إن الآية صريحة في أن الجبان يُبتلى بذي قوة لا يعرفُ للعهد رحمة، ولا يقيم للعدل وزنا، ولا يعرف للحق طريقاً.
ولقد سجّل الشجعان وصدّقت الحكماء أن الموت في مواطن البطولة أشرف من حياة يكسوها الذل ويغمرها الهوان، والحر يلاقي المنايا ولا يلاقي الهوان، ومن العجز أن يموت الفتى جباناً.
وآيةٌ أخرى في كتاب الله تفضح فئات من الجبناء الخوارين، أنكروا رجولتهم، ودفنوا كرامتهم، وقعدوا مع فئات لم تُخلق للضرب ولا للطعان، رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ [التوبة:87]. ولا يتوارى عن هواتف الشرف أو دواعي البطولة إلا من كان حظه من الرجولة ضئيلاً، ومن الكرامة منقوصاً.
وبثُّ القوة الروحية ـ أيها المسلمون ـ ورفع المعنويات يكون بتربية النشء على خلُق الشجاعة وصرامة العزم والاستهانة بالموت. وإخواننا وأولادنا في فلسطين المحتلة قد ضربوا من ذلك بسهم وافر، أعلى الله قدرهم، ورحم شهداءهم، وشفى مرضاهم، وعوَّضهم ما فقدوا، وحقق لهم النصر على عدوّنا وعدوِّهم.
إن الأمة التي تأبى الضيم بحق هي الأمة التي تلد أبطالاً، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعُد بها بخل، ولا يُلهيها ترف.
إن تفاضل الأمم في التمتّع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم لا يتبيّن إلا بقدر ما فيها من شهامة الرجال، وما تدّخره من أدوات الرمي والطعان، فإذا ما اجتمع للأمة رأي وسيف وعزّة تجافت عنها المظالم.
إن العزة وإباء الضيم خلقُ عظيم، ومركب عزيز، أول ما يقع في نفوس الرجال الموكولِ إليهم تدبيرُ شؤون الأمة، وتنفيذ آمالها، وتحقيق طموحها، ورسم خططها.
إن إباءَ الضيم يدفعها إلى أن تذود عن حياضها، وتدافع عن حماها، ولو كان خصمها أعزَّ نفراً وأقوى جنداً وأكثر نفيراً، بل تقف موقف الرجولة والاحتفاظ بالكرامة ولو غلب على ظنّها أنها ستُغلب على أمرها، تفعل هذا إيثاراً لحياة العزة على حياة المهانة، وتجافياً عن خزي وعار تتناقله الأجيال: الخصوم يبغون الفتنة وهم يبغون السلام.
بإباء الضيم تكون الأمة قوية القنى، جليلة الجاه، وفيرة السنا، تزحزح سحائب الظلم والاستعباد، لا تستكين لقوة، ولا ترهب لسطوة.
أمة الإسلام، ذلك شيء مما يتعلق بالقوة المعنوية والعزة النفسية، أما القوة المادية فلا تحتاج إلى مزيد حديث. إنها إعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، ولقد تفتقت أذهان أبناء العصر عن مكتشفات ومخترعات لأنواع من القوى وأساليب من الاستعداد والإنذار فاقت كل تصوّر.
إن الاستعداد بالقوة يمنع الحرب من أن يتّقِد أوارها، ويجعل الأمة المستعدة في منعةٍ من أن تهضَم حقوقها، إعدادٌ واستعدادٌ من أجل اتقاء بأس العدو وهجومه. ولقد جاء هذا العرض جلياً واضحاً في قول الله عز وجل: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، إنه استعداد ليكون سبباً في منع الحرب قبل أن يكون استعداداً عند نشوبها واشتعالها.
نعم، إنه السلام المسلّح، ذلكم أن الضعف يغري الأقوى بالتعدِّي على الضعفاء. إن القوي المستعدّ للمقاومة قلّما يُعتدى عليه، وإن اعتُدي عليه قلّما يظفر به عدوُّه أو ينال منه. إن ترك الاستعداد يُغري بالعدوان ويُسرع بالاستسلام.
إن أخطر ما تتعرض له الأمة هو الغفلة عن الخطر المحدق بها، والتقاعس عن إعداد القوة القادرة على الدفاع.
إن على الأمة الأبية أن تعُدَّ ذلك مسألة حياة أو موت، اقرؤوا قول ربكم في محكم كتابه: وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وٰحِدَةً [النساء:102]. ومن دقائق تعاليم ديننا وآدابه وشريف غاياته أن العدو إذا عدل عن العدوان وأرهبه السلام المسلَّح كان التوجه حينئذ نحو السلم والحرص عليه وقبوله، وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ [الأنفال:61]، وإن أبى العدو إلا الحرب والقوة فالقوة لا تُدفع إلا بالقوة، والعدوان لا يرد إلا بمثله، وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ [البقرة:190]، ففي آداب القتال عندنا: لا يقاتل غيرُ مقاتِل، ولا يُحاسَب إلا المعتدي.
إنما تسقط الأمم في هاوية الذلة إذا صغرت همة رجالها، فلا يُحسون بظلم، ولا يأنفون لعزة، ولا يأثرون لكرامة، يُساقون بذلتهم ومهانتهم إلى جهل ونفرة وشقاق، العاجز لا يُرجى لدفع ملِمَّه، ولا يُؤمَّل في النهوض بهمَّة، كما أنه ليس من العقل ولا من الحكمة الوقوف مع الهزائم، واستعادة الأحزان، والتعثرُ في عقابيلها ، وتبادل كلمات اللوم وآهات التحسر: ليت ولو أن، فما كان ذلك من أخلاق الأقوياء، ولا من مسالك ذوي العزة والأنفة وأباة الضيم، وفي التنزيل العزيز حثُّ لأهل الإيمان أن لا يكونوا مثل أصحاب هذه المسالك: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى ٱلأرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].