الشرف
الشرف كلمة صغيرة ولكن مَعانِيهَا كبيرة، فهي تَشملُ كثيرا من الفضائلِ التي يجبُ أن يَتحلَّى بها الإنسانُ الكامل.
وليس الشرفُ في المال الوافر والقصور الشامخة أو الأثاث والرياش الفاخرة، وإنما هو في الأعمالِ الجليلة التي تَسمُو بالفرد وتَرقَى بالمجتمع، وفي تلك البطولةِ التي تُكسب الوطنَ عِزا ورِفعة.
الشرفُ كلمة تَنطقُ بها طوائفُ من الناس إلا أن أكثرهم عن حقيقة. معناها غافلون، فِئة ترى الشرفَ في تَشييد القصور، والتعالي في البُنيان، وزخرفةِ الغُرفِ والجُدران، وَوفْرةِ الخَدم والحَشَم ، والقناطير المُقنطَرةِ من الذهب والفِضة والخَيلِ المُسَوَّمَةِ والأنعام والحَرث، وفِئة أخرى تتَوهمُ أن الشرف في لُبسِ الفاخرٍ من الثياب والتحلِّي بحلي الجواهِر الثمينة، والألْقابِ والرُّتَبِ والأوْسِمة، حتى إنك تَرى الرجل يُغالي في سَلبِ مالِ أَخيه، ويَنهَب ثروةَ أقاربِه وذَويه ، أو بَني مِلَّتِه ومواطِنيه، ليَشِيدَ بما يُصيبُ من السُّحتِ قَصرا، ويُزخرفَ بَيتا، ويقيمَ له حُراسا من الخَدَمِ وخُفراء من الغِلمان، ويَظنُّ بذلك أَنه نال مَجدا أبَدِيّا وفخارا سَرْمَدِيّا ، وتجد الآَخَرَ يذهبُ في الكَسب أشنع مِما يذهبُ الأول ليَكْتَسِيَ بفاخرِ الثياب، وَيَتَزَيَّن بأجمل الحُلِيّ، أو ليكونَ له من ذلك ما يُفاخِرُ به أَمثالَه، ويَتخيَّلُ أنه بَلَغِ به درجةً من الرفعةِ لا يُدانىَ فيها. ومنهم ثالثٌ يَسهرُ لَيلَهُ، ويَقطعُ نهاره بالفكرِ في وَسيلةٍ ينالُ بها لَقَباً من تلك الألقاب، أو يَحصُل بها على وسَام من الأوْسِمة، وهو لا يُبالي في ذلك بالوسائلِ التي يَتَّخذها عَونا على مآَرِبِه، وإِن أفْضَت إِلى الإضرارِ ببلادِه أو إذلال أمتِه أو تمزيقِ مِلَّتِهِ.
نحن نرى هذه الأوهام قائمةَ مقامَ الحقائق في أذهانِ كثير من الناس، ولكن لا نظن أَنها قد طمَست عَيْنَ الحقّ فيهم حتى عَمُوا عن إدراكِ خطئِهم، وانحرافِهم عن الصواب في وَهمِهـم.
ماذا يشعر به المُفاخِر بحليه وملابسِه ورِيَاشِه إذا تَجردَ منها، ولم يَكُنْ لِذَاتِه حِلْيَةٌ من الفضيلة، زينة من الكَمال؟ أَلا يكونُ هو وعراةُ الفقراءَ سَواء؟ ماذا يَتصور الزاهِي برُتْبتِه، المُعّجَبُ بأوسِمَتِهِ إِن لم يَكن له منِ الخُلُقِ ما يَستدعِي التَّبجِيلَ والإجلال؟
نعَم لهذه الألقابِ الشريفة شَأن يرتفع به الإنسانُ إِذا سبَق بعَملٍ يَعترِفُ الناس جميعا بشَرفِه، وكان اللقب دليلا عليه أو مُشيرا إليه، كما يكونُ لمثلها حالٌ يَسقط بها الاعْتِبَارُ إذا تَقدَّمتْها فعلة يَمقُتُها العُقلاء.
أنظر إِلى أولئك الأبطالِ الذين جاهَدوا ودافعوا عن بلادهم، وكافَحوا في سبيل إِعزازِ وطنهم، والدفاع عن دينهم، ثم أحَلَّتهم أمَّتُهم مَحلا رفيعا، ومَنحَتهم ما يَستحِقون من شريفِ الألقاب. ثم انْظر إِلى أولئك الذين لَطَّخوا صُدورَهم بأوسِمَة، ودنَّسوا نفوسَهم بألقاب، نَالوها من أعداءَ البلاد جَزاء تمكينِ الأجانبِ المُخادِعين من هذا الوطنِ العزيز.
ماذا غَرَّ أولئك الواهمين؟ أَلا يَعلمون أن الثيابَ المُعلَمَةَ بالدَّمِ، المُوشَّاة بالنَّجِيع ، هي التي حَفِظت لِلابِسِهَا ذِكرا حَسنا لا يَنقطع، وأثرا مَـجيدا لا يمحى. إِن الذين ضُرِّجوا بدمائهم في طلب المجد لبلادهم هم الذين قدرهم الناس حق قدرهم وأجْمَعت القلوب على فَضلِهِم… ألم يَصِلا إِليهم أن الذين قَضَوْا نَحْبَهم في غيابات التَشريد، وانتهت حَياتهم في ظُلُماتِ السجن، لطَلب حَق مسلوب، أو حفظِ مَجدٍ مُغتَصب، هم الذين سَما ذِكرُهم إِلى السَّمتِ الأعلى، وعَلَت أسماؤهم على جميع الأسماء.
أَظن أَن الذين كانوا في ا لغُرفاتِ العالية يتَمتعون بحدائقهم ومَباهجهم، ويُشرِفون على الناس في قصورهم وليس لهم من أثرٍ إلا التَمتعُ بما نالوا، لم يَبْقَ لهم ذِكرٌ ، ولم يكن لهم في حياتهم شَأْن إلا ما هو محصور في دوائر بيوتهم، ومثلُهم كذلك أَولئك الذين كانوا يسحبون مَطارفَ النعيم والرَفَاهيَة، ويَكتسُون حُلَلَ الخَزِّ وا لدِّيبَاج، ذَهبوا وذَهَبت معهم أَكْسِيتُهم، وَارتدُّوا من حيث أَتَوْا، لا يُعلم، متى جاءوا إلى الدنيا ومتى رَحَلوا عنها.
خُدِعَ قوم بالأحلام، وغَّرتهم الأَوهام، ففرَّطوا في شُئون بلادهم، وباعوا مَجدَها الشامخَ بتلك الأسماء التي لا مُسمَّى لهـا، وزَعَموا، وهم واهمون أنهم رَقَوا مكانة من الشرف، وإِن كان خاصّا بهم، فلو أنهم أصْغَوا لما تُحدِّثُهم به سرائرُهم، وتُعنِّفُهُم به خواطرُ أفئدتهم، ورَمقُوا بأبصارهم ما يُحِيطُ بهم، لعَلِموا أَنهـم في أخسِّ المنازِل وأَسفلِ الدَّركات ، وأدركوا خَطأَهم في مَعنَى الشرفِ، وانحرافَهم عن جَادَّة الصَّواب في طلَبِه.
الشرفُ حقيقةٌ محدودة كَشَفتْها الشرائع، وحدَّدتْها عُقُولُ الكاملين من البشر، وليس لإِنسانٍ أَن يَرتابَ في فَهمِها إِلا مَن خَتَمَ الله على قلبِه، وجَعل على بَصرِهِ غشَاوَة.
الشرفُ بَهاءٌ للشخص يُحوِّلُ إِليه الأَنظار، ويُوجِّه إليه الخواطرَ والأفكار، وجَمالٌ يَروقُ حسنه في البصائِر و الأبصار.
وَمشرِقُ ذلك البهاءِ عَمَلٌ يَأتيهِ طالبُه، يَكون لها أَثرٌ حَسَن في أُمتِه، أو بَني مِلَّتِه، أو في النوعِ الإِنساني عامة. كإِنقاذٍ من تَهلُكَة، أو كَشف لجهَالة، أو تنبيهٍ لطَلب حقٍّ مَسلوب، أو تذكيرٍ بمَجدٍ سَبق، أَو إنْهاضٍ من عَثْرة، أو إِيقاظٍ من غَفلة، أو إرشادٍ لخَيْرٍ يَعُمّ، أَو تحذيرٍ من شَرٍّ يَغُمّ ، أَو تهذيب أخلاقٍ ، أو تَثقيفِ عقول، أَو جَمعِ كلمة وتَجديدِ رابطة، أَو إِعادة قُوةٍ وانْتِشالٍ من ضَعف، أو إِيقادِ حَمِيَّة، أَو حَثٍّ على جلائلِ الأعمال.
من أَتي عَملا له أَثرٌ من هذه الآثارِ فهو الشريف،وإن كان يَسكُنُ الخَصاص والأكواخ، ويلبسُ رخيصَ الثياب، ويَقتاتُ بنَباتِ البَرّ، ويَبيت على تُرابِ القفر، ويضربُ في كلِّ واد، ويَتردَّد بين الرُّبا و الوِهَاد . هذا له حِليةٌ من عِلمِه وزينةٌ من فَضلِه، وبَهاءٌ من كمالِه، وضِياءٌ من جِده: تَعرِفُه المشاعرُ الحَسَّاسة ولا تُنكِرُه، وتَكْتنِفُه حَبَّاتُ القلوب التي تَهفُو إِليه، له من رُوحِه قُصورٌ شاهقة، و غُرفاتٌ شاهقة، ومناظرُ رائعة، وجمالٌ باهر، ونورٌ زاهر، لا يَكادُ يَخفىَ حتى يَظهر، ولا يَلبَثُ مستورا حتى يُبْصَر، { إليه يَصعَدُ الكَلِمُ الطيِّب، والعملُ الصالحُ يَرفَعُه } إِلى أعلَى عِلِّيِّن، حياةٌ طيبة في القلوب، وعِزةٌ مُشرِقَة في جَبهةِ الزمان، { وفي ذلك فَلْيَتَنافَسِ المُتَنَافِسون }.